وساطات بيروت- من بندر بن سلطان إلى هوكشتاين.. دروس الماضي وتحديات الحاضر
المؤلف: محمد الساعد11.04.2025

في عام 1982، بينما كانت المعارك الطاحنة مستعرة بين الفصائل اللبنانية المتناحرة، وفي خضم الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، حلّ الأمير بندر بن سلطان ببيروت مبعوثًا للسلام من المملكة العربية السعودية، وكان برفقته السيد فيليب حبيب، المبعوث الأمريكي الذي تولى مهمة الوساطة الدقيقة بين الأطراف اللبنانية المتصارعة من جهة، وإسرائيل التي توغلت في لبنان حتى بلغت مشارف العاصمة بيروت من جهة أخرى.
امتدت جهود الوساطة لأسابيع عديدة، اتسمت بالجولات المكوكية المضنية والمخاطر الجسيمة، حيث كانت بيروت ترزح تحت وطأة القصف العنيف المتبادل، وتأجج نيران الحرب الأهلية بين الفصائل التي لم يكن يجمعها سوى منطق الثأر والانتقام، ولم يقتصر المشهد المأساوي على الاجتياح الإسرائيلي، بل كانت الحرب الأهلية قد بلغت ذروة جنونها مع وقوع مجازر وحشية متبادلة بين الأطراف المتنازعة، وعلى رأسها مجازر صبرا وشاتيلا المروعة.
تكرر المشهد القاتم: المنظمات الفلسطينية تفرض سيطرتها المتنامية على لبنان، بعد وصولها تدريجيًا إثر أحداث الحرب الأهلية في الأردن، وما أعقبها من فصول «أيلول الأسود» الدامية عام 1972، بينما يرى الفرقاء اللبنانيون أن وجودهم بات مهددًا بسبب غياب التنسيق معهم في حرب الفصائل ضد إسرائيل، وأن تلك العمليات ستجر ويلات الحرب الإسرائيلية على لبنان، وهو ما تحقق بالفعل، في ظل جيش لبناني ضعيف وغير قادر على الفصل بين الأطراف المتناحرة.
قبيل الاجتياح الإسرائيلي ببضعة أسابيع: وقعت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن «شلومو أرجوف»، على يد تنظيم أبو نضال الفلسطيني، لتزيد الأوضاع اشتعالاً، وتسببت المحاولة في إصابة السفير بجروح خطيرة، أدت إلى شلله ودخوله في غيبوبة استمرت لثلاثة أشهر، هذه العملية، بالإضافة إلى الضربات التي استهدفت الجليل الأعلى، ومحاولات اختراق الحدود المتكررة، كانت بمثابة الشرارة التي أدت إلى غزو لبنان عام 1982، بهدف معاقبة منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تسيطر على الجنوب اللبناني وصولاً إلى العاصمة بيروت.
بفضل حنكة الأمير بندر بن سلطان ودبلوماسية فيليب حبيب، تم احتواء الأزمة، وإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية من الفناء المحقق على يد أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، الذي قاد واحدة من أشرس العمليات العسكرية في تاريخ الجيش الإسرائيلي، إن الحفاظ على بقاء المنظمة ورمزها الأبرز «ياسر عرفات» هو ما مكن المنظمة بعد 11 عامًا من التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي مع إسرائيل تحت عنوان «اتفاقية أوسلو»، والحصول على اعتراف دولي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتأسيس سلطة فلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.
واليوم، ومع دخول الحرب الإسرائيلية على لبنان شهرها الثالث، يصل إلى بيروت وسيط أمريكي آخر هو «عاموس هوكشتاين»، لكنه هذه المرة يصل دون رفقة عربية، يصل وحيدًا دون سند عربي قادر على فهم تعقيدات الأزمة وتفاصيلها الدقيقة وجذورها التاريخية، الجدير بالذكر أن فيليب حبيب كان من أصل لبناني، ولذلك كان مقبولاً لدى الأطراف اللبنانية، أما «عاموس هوكشتاين» فهو إسرائيلي الأصل، ولد في القدس وترعرع وتلقى تعليمه في أمريكا، حتى وصل إلى منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي.
لا شك أن هناك أوجه تشابه كبيرة في الخطوط العريضة بين الوضع في لبنان عام 1982، والوضع الراهن عام 2024، لكن الاختلاف يكمن في التفاصيل الدقيقة، وفي كيفية معالجة الأزمة، فاليوم يتولى اللبنانيون بأنفسهم مهمة التفاوض المباشر، فهل هم قادرون على مواجهة الضغوط الإسرائيلية الهائلة والدعم الغربي الكبير، بعدما فقدوا الغطاء العربي الذي كان يخفف بشكل كبير من التدخلات الغربية في السياسة اللبنانية؟
ولأن الجميع كان تواقًا لتحقيق نصر ما، ولو كان وهميًا، كي يتمكنوا من الترويج له في أوساطهم وجماهيرهم، فقد توهم ياسر عرفات أنه بمجرد صعوده على متن السفينة المتجهة إلى تونس، ستعلن الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهو الوعد الذي نقله السيد «هاني الحسن»، ممثل ياسر عرفات، الذي أكد أن «الولايات المتحدة ستعلن اعترافها بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أثناء الخروج، وسوف يخرج الرئيس رونالد ريغان ليلقي خطاباً بنفسه للإعلان عن ذلك، بشرط أن يتم بعد صعود ياسر عرفات وجنوده على متن السفن»، وفقاً للنص الحرفي الذي نقله «هاني الحسن» للقيادة الفلسطينية المحاصرة، التي وافقت عليه بالإجماع، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق على أرض الواقع.
لولا الوساطة السعودية الحكيمة بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- والتي تمت بعد سنوات عدة، لدى الرئيس رونالد ريغان، وحملها سفيره الأمير بندر بن سلطان، لما حصل الفلسطينيون على أول اعتراف رسمي بهم، وعقدت بعدها جلسة مباحثات بوساطة سعودية كريمة في مقر عرفات بتونس، تلك الوساطة السعودية القيّمة نقلت منظمة التحرير الفلسطينية من قائمة المنظمات الإرهابية إلى مرتبة قيادة المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.
ما أشبه الليلة بالبارحة، لكن الظروف تبدلت، والوسطاء تغيروا، والغطاء العربي لم يعد موجوداً، وهو غطاء تخلّى عنه اللبنانيون بأنفسهم، بعدما جاهروا بأنهم ليسوا جزءًا من المحور العربي، ولذلك فإن النتائج المتوقعة لوساطة الإسرائيلي الأصل والأمريكي الجنسية «هوكشتاين» لن تكون بأي حال من الأحوال مماثلة لما حققه فيليب حبيب وبندر بن سلطان، اللذان حافظا على الهوية العربية للبنان، وحفظا كيان وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وأثمرا لاحقًا عن اتفاق الطائف، والعصر الذهبي الذي شهده لبنان بقيادة الحريري، والذي تميز بالتنمية الشاملة وازدهار السياحة.
امتدت جهود الوساطة لأسابيع عديدة، اتسمت بالجولات المكوكية المضنية والمخاطر الجسيمة، حيث كانت بيروت ترزح تحت وطأة القصف العنيف المتبادل، وتأجج نيران الحرب الأهلية بين الفصائل التي لم يكن يجمعها سوى منطق الثأر والانتقام، ولم يقتصر المشهد المأساوي على الاجتياح الإسرائيلي، بل كانت الحرب الأهلية قد بلغت ذروة جنونها مع وقوع مجازر وحشية متبادلة بين الأطراف المتنازعة، وعلى رأسها مجازر صبرا وشاتيلا المروعة.
تكرر المشهد القاتم: المنظمات الفلسطينية تفرض سيطرتها المتنامية على لبنان، بعد وصولها تدريجيًا إثر أحداث الحرب الأهلية في الأردن، وما أعقبها من فصول «أيلول الأسود» الدامية عام 1972، بينما يرى الفرقاء اللبنانيون أن وجودهم بات مهددًا بسبب غياب التنسيق معهم في حرب الفصائل ضد إسرائيل، وأن تلك العمليات ستجر ويلات الحرب الإسرائيلية على لبنان، وهو ما تحقق بالفعل، في ظل جيش لبناني ضعيف وغير قادر على الفصل بين الأطراف المتناحرة.
قبيل الاجتياح الإسرائيلي ببضعة أسابيع: وقعت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن «شلومو أرجوف»، على يد تنظيم أبو نضال الفلسطيني، لتزيد الأوضاع اشتعالاً، وتسببت المحاولة في إصابة السفير بجروح خطيرة، أدت إلى شلله ودخوله في غيبوبة استمرت لثلاثة أشهر، هذه العملية، بالإضافة إلى الضربات التي استهدفت الجليل الأعلى، ومحاولات اختراق الحدود المتكررة، كانت بمثابة الشرارة التي أدت إلى غزو لبنان عام 1982، بهدف معاقبة منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تسيطر على الجنوب اللبناني وصولاً إلى العاصمة بيروت.
بفضل حنكة الأمير بندر بن سلطان ودبلوماسية فيليب حبيب، تم احتواء الأزمة، وإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية من الفناء المحقق على يد أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، الذي قاد واحدة من أشرس العمليات العسكرية في تاريخ الجيش الإسرائيلي، إن الحفاظ على بقاء المنظمة ورمزها الأبرز «ياسر عرفات» هو ما مكن المنظمة بعد 11 عامًا من التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي مع إسرائيل تحت عنوان «اتفاقية أوسلو»، والحصول على اعتراف دولي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتأسيس سلطة فلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.
واليوم، ومع دخول الحرب الإسرائيلية على لبنان شهرها الثالث، يصل إلى بيروت وسيط أمريكي آخر هو «عاموس هوكشتاين»، لكنه هذه المرة يصل دون رفقة عربية، يصل وحيدًا دون سند عربي قادر على فهم تعقيدات الأزمة وتفاصيلها الدقيقة وجذورها التاريخية، الجدير بالذكر أن فيليب حبيب كان من أصل لبناني، ولذلك كان مقبولاً لدى الأطراف اللبنانية، أما «عاموس هوكشتاين» فهو إسرائيلي الأصل، ولد في القدس وترعرع وتلقى تعليمه في أمريكا، حتى وصل إلى منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكي.
لا شك أن هناك أوجه تشابه كبيرة في الخطوط العريضة بين الوضع في لبنان عام 1982، والوضع الراهن عام 2024، لكن الاختلاف يكمن في التفاصيل الدقيقة، وفي كيفية معالجة الأزمة، فاليوم يتولى اللبنانيون بأنفسهم مهمة التفاوض المباشر، فهل هم قادرون على مواجهة الضغوط الإسرائيلية الهائلة والدعم الغربي الكبير، بعدما فقدوا الغطاء العربي الذي كان يخفف بشكل كبير من التدخلات الغربية في السياسة اللبنانية؟
ولأن الجميع كان تواقًا لتحقيق نصر ما، ولو كان وهميًا، كي يتمكنوا من الترويج له في أوساطهم وجماهيرهم، فقد توهم ياسر عرفات أنه بمجرد صعوده على متن السفينة المتجهة إلى تونس، ستعلن الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهو الوعد الذي نقله السيد «هاني الحسن»، ممثل ياسر عرفات، الذي أكد أن «الولايات المتحدة ستعلن اعترافها بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أثناء الخروج، وسوف يخرج الرئيس رونالد ريغان ليلقي خطاباً بنفسه للإعلان عن ذلك، بشرط أن يتم بعد صعود ياسر عرفات وجنوده على متن السفن»، وفقاً للنص الحرفي الذي نقله «هاني الحسن» للقيادة الفلسطينية المحاصرة، التي وافقت عليه بالإجماع، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق على أرض الواقع.
لولا الوساطة السعودية الحكيمة بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- والتي تمت بعد سنوات عدة، لدى الرئيس رونالد ريغان، وحملها سفيره الأمير بندر بن سلطان، لما حصل الفلسطينيون على أول اعتراف رسمي بهم، وعقدت بعدها جلسة مباحثات بوساطة سعودية كريمة في مقر عرفات بتونس، تلك الوساطة السعودية القيّمة نقلت منظمة التحرير الفلسطينية من قائمة المنظمات الإرهابية إلى مرتبة قيادة المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.
ما أشبه الليلة بالبارحة، لكن الظروف تبدلت، والوسطاء تغيروا، والغطاء العربي لم يعد موجوداً، وهو غطاء تخلّى عنه اللبنانيون بأنفسهم، بعدما جاهروا بأنهم ليسوا جزءًا من المحور العربي، ولذلك فإن النتائج المتوقعة لوساطة الإسرائيلي الأصل والأمريكي الجنسية «هوكشتاين» لن تكون بأي حال من الأحوال مماثلة لما حققه فيليب حبيب وبندر بن سلطان، اللذان حافظا على الهوية العربية للبنان، وحفظا كيان وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وأثمرا لاحقًا عن اتفاق الطائف، والعصر الذهبي الذي شهده لبنان بقيادة الحريري، والذي تميز بالتنمية الشاملة وازدهار السياحة.
